ناطق نيوز-بقلم : عوض ضيف الله الملاحمه
التغير ، وعدم الثبات ، من سُنة الحياة ، وهو سُنة كونية ، والتطور كذلك ، لأن الشعوب التي لا تتطور تموت ، لكن التطور يرتبط بوجود إرادة لدى الشعوب للريادة ، وإحداث التطور ، لذلك نرى فَرقاً كبيراً ، بين شعب وآخر في إحداث التطور والتغيير ، وعليه نجد شعوباً ، غاية في التسارع في وتيرة الحياة ، وإحداث التغيير ، وبلوغ مراحل متقدمة في تطورها ، وتتفاوت الدرجات نزولاً ، الى ان نصل الى مجتمعات ، جامدة ، ساكنة ، غير قابلة ، ولا مستعدة ، وغير مستوعبة لضرورة الاستجابة لِلسُنن الكونية ، بإحداث تطوير ، وتغيير ، وهنا تدخل مثل هذه الشعوب مرحلة التخلف عن ركب الحضارة ، وهو ما ينطبق علينا ، نحن الدول التي تُسمى مجازياً بالدول النامية ، تهذيباً وتلطيفاً للوصف ، بينما في الحقيقة هي دول متخلفة ، ومع كل الأسف وطننا الحبيب الاْردن أحد أقطابها .
في الاْردن تحديداً ، كُنّا مجتمعاً رعوياً ، قبلياً ، نسكن بيوت الشَعْرْ ، وحياتنا تتقلب بين الحِل والترحال ، بحثاً عن الكلأ ، والماء ، ولإضطرار المجتمعات البدوية أحياناً ، للتداخل ، والتنازع ، والإحتكاك ، والإقتتال على الحِمى ( اي مناطق الرعي المحددة لكل قبيلة ) ، خاصة في سنوات القحط ، حيث تتغطرس ، وتعتدي القبائل القوية ، كثيرة العدد ، على القبائل الأقل قوة او الأضعف ، ولأن الحياة بِمُجملها لا تحب الفراغ ، ظهرت الضرورة لظهور القضاء العشائري ، ليحكم بين الناس ويفصل في النزاعات والقضايا الخلافية ، سواء بين ابناء القبيلة الواحدة ، او بين القبائل ذاتها ، ورغم بساطته ، وعدم تدوينه ، الا انه كان فاعلاً جداً في حل النزاعات .
بما انه لا يمكننا في مقال ان نتطرق الى القضاء العشائري بعامته ، والذي نشيد بفاعليته ، وجدارته ، وعدالته ، في حل النزاعات وبزمن قياسي ، الا ان موضوعنا تحديداً يتعلق في (( الجَلوة )) ، وهي مطروحة في الأوساط الرسمية ، لإيجاد حلول ، وبدائل للسلبيات المجتمعية التي تنتج عن الجلوة . لمن لا يعرف ، الجلوة تعني إجلاء ، اي ترحيل أهل الجاني او القاتل الى مكان آخر ، تحكمة أسس متفق عليها عشائرياً سواء من ناحية إختيار المكان لمن يتم إجلائهم ، وتحديد من هم الخاضعون للجلوة من قبيلة القاتل ، ولزمن طويل كانت خَمسة القاتل هي التي يُفرض عليها الجلوة ، ومعنى الخمسة : خمسة الأصابع التي تقبض قبضة كاملة للسلاح الأبيض ، يتم العدّ ، وعند تسمية كل شخص من نسب القاتل يتم ازالة إصبع من اليد القابضة على السلاح الأبيض ، وعند الوصول للجد الخامس يسقط السلاح من قبضة اليد ، عندها يتوقف العدّ ، وتعني بالترتيب العشائري ، جَدّ الجَدّ . قبل عقود من الزمن ، تم تخفيضها الى القاتل ووالده وإخوته وكل تفرعاتهم ، ثم تم تخفيضها الى من هم في دفتر عائلة القاتل فقط ، لكنه لم يتم الالتزام بها في بعض الحوادث .
الجلوة ، فِعلٌ مُتخلف جداً ، مع إحترامنا للقضاء العشائري ، الذي نعتبره فاعلاً وحاسماً ومنصفاً وديناميكياً ومُلزماً اكثر من القضاء المدني ، لكن الجلوة تحديداً هي فعل متخلف ، لماذا ؟؟ لاننا نسكن الآن بيوتاً من حجر ، وليس بيوتاً من شَعِرْ ، بيت الشَعر تتنقل به من مكان الى آخر بمنتهى السهولة وأليسر ، والناس كانت تعيش ، ومصدر رزقها الوحيد من تربية المواشي ، فلا ضرر ، ولا صعوبة في الانتقال من مكان الى آخر ، مهما بَعُدْ ، بينما الان لا يمكن نقل بيت الحجر ، وارتبط عمل الانسان في مكان سكناه ، سواء كان عملاً وظيفياً ، او مصلحة خاصة ، كما ان هناك طلبة مدارس ، وطلبة جامعات ، لا يمكنهم ترك أماكن دراستهم ، مما يُوقع أضراراً بليغة ، لا يمكن حلُّها ، لذلك لا بد من حلّ لمشكلة الجلوة ، وشطبها تماماً من الإجراءات ذات الصلة في التقاضي .
ليرتقي بلدنا ، ولينهض ، ولنتماشى مع تطور العصر ، ولتكون الإجراءات قابلة للتطبيق ، ومُنصفة ، ولسيادة القانون ، ولتفرض الدولة سيطرتها وهيبتها ، لابد من إلغاء الجلوة نهائياً ، وان نحتكم للقانون المدني تماماً ، شريطة ان يتم وضع ترتيبات قانونية خاصة ، تختصر زمن التقاضي ، وتحمي أهل القاتل ، لانه ما ذنب أقرباء قاتل متهور ، مجرم ، ان يدفعوا ثمن إجرامه وتهوره !!؟؟ وهذا مخالف للشرع حيث يقول ربُّ العِزة في قرآنه الكريم ( ولا تزروا وازرةً وِزْرَ أُخرى ) .
الجلوة تَخلُّف ، وإلغاؤها تَحضُّر ، وليس أمامنا الا الإرتقاء باجراءات التقاضي والاحتكام الى القانون المدني ، شريطة إختصار وقت التقاضي ، لإنصاف المظلوم ، والإقتصاص من الظالم . ولنا في قول الشاعر عِبرة : إذا الحيُّ عاش بعظم مَيتٍ / فذاك العظم حيٌّ وهو مَيتُ .