القصة الثانية .. عن والدي .. في تحرّي دِقَّة الكيل
ناطق نيوز-كتب عوض ضيف الله الملاحمه
أيام الزمن الجميل بناسه ، ونُبل قيمهم ، ورفضهم الحرام بشكل مطلق لا مِراء فيه ، حتى شُبهة الحرام يفِرون منها بذعر ، وخوف ، ووجلٍ من رب العباد ، ومن الناس ، مع أنهم في معظمهم شجعان ، وكأن جيناتهم من أسود ضواري ، لا يهابون ، ولا يخشون أحداً . لكنهم يرقبون لومة أي لائم في قول الحق والصدق ، وإيفاء الكيل بالقسط ، ولا يِخسِرون الناس أشيائهم ، ويُسَرّون كثيراً ويفرحون فرحاً عظيماً عند الإيفاء بحقوق الغير .
في خمسينيات القرن الماضي ، حيث كُنت طفلاً ، أنا وشقيق روحي أخي / مصلح ( أبو إيهاب ) رحمه ربي وأسكنه فسيح جنانه ، وبينما كنا نلهو خارج بيتنا الكبير في قرية / زحوم / الكرك ، مرّ من جنبنا والدي رحمة الله عليه ، ولاحظنا انه ( مِستهم ) أي يمشي على عجلٍ ، وكأن ورائه مهمة هامة لدرجة الخطورة ، التي تتطلب إستعجالاً ، فبادرناه بالسؤال انا وأخي : وين رايح يابه !؟ رد قائلاً : ودي أروح عند الصنايعيه أفصِّل نُصْمد ، تعالوا معاي . ذهبنا برفقة والدي ، وجلسنا مع الصنايعي ، ووصف له والدي بأنه يربد تفصيل نصمد لكيل الحبوب ، يكون قياسه يستوعب كمية من الحبوب عند الكيل حسب الوزن الشرعي . ودار بينهما حديث طويل عن مواصفاته مثل : ان يكون من الخشب من نوعٍ مُعين ، وان يتم تغليف قاعدته بحديد الصاج حتى لا يهتريء ، وان يضع زناراً من الصاج في الأعلى .. الخ . واتفقا على ان يتم عمله بقياسٍ أكبر من المعتاد ، فيأخذة أبي ويكيل به ، ويوزن ما إكتاله ، وبقدر الزيادة يتم القص منه — على ان يتم تأجيل تلبيسه بالصاج الى النهاية لحين التأكد على ان الوزن مطابق للوزن الشرعي . واتفقا على السعر الأساسي ، وكلفة إضافية عند كل قَصة منه . وغادرنا برفقة والدي ، ونحن نستفسر منه عن كل شيء حتى نفهم الغاية من ذلك . فحدثنا والدي عن إيفاء الكيل والميزان ، وان التلاعب بالكيل والميزان لهما حُرمة شديدة عند رب العباد . وسألنا والدي : وأنت كيف عرفت الوزن ، قال : انه سأل شيخ الجامع العمري في الكرك ، والشيخ / حسن المحادين عليه رحمة الله . وبعد أيام ذهبنا برفقة والدي ، ووجدناه جاهزاً ، فأخذه والدي ، وعدنا الى البيت ، فكال به والدي بمساعدة أخي الكبير / صالح ( أبو نايل ) رحمه ربي وأسكنه فسيح جنانه ، وحمل والدي القمح الذي تم كيله ، وذهبنا برفقة والدي الى دكان أحد الأقارب في القرية ، ووزنه ، ووجده يزيد عن الوزن الشرعي . وإستأثرتا انا وأخي بثمن القمح حيث ( تبغددنا ) وأشترينا أشياء كثيرة ، مثل : الراحة ، والبزر ، والفسدق ، والكعكبان . وبنفس اليوم رافقنا والدي وذهبنا الى الصنايعي ، وتبادلا الحديث عن النسبة التي يمكن قصها من النصمد ، واعطى والدي موعداً آخر ، وعدنا بنفس الموعد ، وكال به والدي وأخي الأكبر وتم وزنه ، وتبين انه يزيد عن الوزن الشرعي . وأصبح تكرار توزين القمح من مصلحتنا أنا وأخي . وتمت العودة للصنايعي .. وهكذا تكرر ذهابنا للصنايعي ، والعودة بالنصمد ، والكيل به ، وتوزينه ، وتكرر الذهاب والاياب وكل الاجراءات الفنية المتعلقة به ، عدة مرات ، مع ان المسافة بين بيتنا والصنايعي الذي يسكن في ( عريشه ) او ( خربوش ) حوالي ( ٣ ) كم ، الى ان تم ضبط وزن الكيل حسب الشرع بالضبط .
وبعد هذا الإنجاز الكبير بضبط وزن الكيل بالنصمد حسب الشرع بالتمام ، شاع صيت نصمد والدي ، في قرية زحوم ، وإمتدت شهرته عند بعض العائلات الكركية المحترمة في قرى : الثنية ، والغوير ، وأدر ، وبعض قرى أبناء عمومتنا الطراونة في قرى العمرية والحسينية والمزار ) ، وأطلقوا عليه إسم ( نصمد ضيف الله ) .
لله درهم ، ما أعظم قيمهم ، وما أشد التصاقهم بالحلال ، ونفورهم من الحرام ، رغم بساطة تعليمهم ، وإنتشار الأُمية بينهم ، فبالكاد تعثر على بضعة أشخاص في القرية بأكملها يُحسنون القراءة والكتابة . وددت التعريف بهذه القصة البسيطة بساطة أهلها للعبرة ، وللمقارنة بين زمانهم وزماننا ، لا بل بيننا وبينهم . حيث يتفنن الناس في تبسيط مفاهيم الحرام ، وإيجاد مسميات بديلة تخفف من وقع الحرام على أُذن من يستهويه : فالرشوة أصبحت ثمن فنجان قهوة ، والسرقة خِفة يد ، والتلاعب بالكيل والميزان شطاره ، والفساد فهلوه وجرأة حيث يُقال انه رجُل زبّط حاله — تصوروا ان يوصف الفاسد بصفة الرجولة !؟ لك جِنان الخلد يا والدي أنت ومن شابهك وزاد عليك بإيفاء الكيل والميزان حقه ، يا جيل العظماء بقيمهم وأخلاقهم .