العُنف الجامعي .. مَثْلَبٌ وطني
ناطق نيوز-كتب عوض ضيف الله الملاحمه
الدراسة في الجامعة مرحلة تأهيلية متقدمة تقولب الشخصية ، وتتفتح بها الذهنية ، وترتقي بالقدرات العقلية ، وتنمي المواهب ، وتصقل المهارات ، لذلك لو تم وضع معايير لإنتقاء الطالب الجامعي لفشلت نسبة ليست بسيطة من طلبة الثانوية في الوصول للجامعات . لأن هناك عقليات مُتحجرة ، ليست مهيئة للصقل ، والقولبة ، والإكتساب . وهذه الفئة هي التي تشوّه البيئة الجامعية لانها غير قابلة للتحضر . متمنياً على الجهات المختصة بالقبولات الجامعية في الوطن ان تُخضِع الطالب الى مقياس نفسي ، وعقلي ، وحضاري قبل دخول الجامعة ، لنرتقي بمخرجات جامعاتنا ، وليحصل الوطن على خريجين مؤهلين مهيئين للخدمة العامة وأصحاء نفسياً .
درست في جامعة بغداد خلال الاعوام ١٩٧١ — ١٩٧٥ ، وكان الضبط داخل الحرم الجامعي شديد جداً ، لا بل كان له قدسية معينة . وهنا سوف أذكر بعض الأمثلة :- ١ )) : كان رئيس الجمهورية آنذاك المهيب / أحمد حسن البكر ، يقوم بزيارات غير معلنة لكليات جامعة بغداد . وتجسيداً لقدسية الحرم الجامعي ، كان يأتي وبرفقته حارس واحد فقط ، ويرتدي الحارس اللباس المدني ، ويُسلِّم مسدسه الشخصي للحرس الجامعي عند البوابة الرئيسية . ويتحرك بين الطلبة بأريحية ، وكأنه واحداً منهم ، ودون ان يُعلَم عميد الكلية او غيره بذلك . لدرجة ان قصة حدثت مع زملائي من الطلبة الأردنيين الذين كانوا يدرسون في كلية الإدارة والإقتصاد ، وهم : السيد / علي سالم الطراونة ، والسيد / مازن الناصر ، والسيد / سليم الجلامدة ، والسيد / جمال الملاحمه ، والسيد/ علي المدادحة ، والسيد / محمود الملاحمه ، والسيد / غاندي الروسان .. وغيرهم . كانوا يصعدون الدرج للوصول الى قاعات المحاضرات ، وتصادف ان تمازح إثنان منهما ، و ( دفش ) أحدهما الآخر ، فالتفت ليعتذر للشخص الذي إصطدم به ، وإذا به رئيس الجمهورية المهيب / أحمد حسن البكر . فإعتذر ، وسلّم عليه ، وإبتسم رئيس الجمهورية ، وربّت على كتفه .
٢ )) وفي كلية الآداب ، قسم اللغات ، كان أستاذي ، الأستاذ الدكتور / عبد الواحد لؤلؤة ، وزوجته أستاذتي الدكتورة / مريم ، كانا يعيشان حياة هيام ، وغرام ، وعشق متفرد ، وكان تخصصهما في الشعر الإنجليزي ، وكانا لا يمكن ان يسيران مع بعضهما إلّا وهو يُمسِك بيدها . ولأن هذا الفعل ممنوع منعاً باتاً في الحرم الجامعي . تقدّم العلّامة الدكتور / عبد الواحد لؤلؤة بمذكرة رسمية لعمادة الكلية للسماح له بأن يُمسِك بيد زوجته داخل الحرم الجامعي . وأخذ الموضوع شهوراً من البحث والجدل ، حتى وصل الى رئيس جامعة بغداد ، وبعد جُهد جهيد حصل على الموافقة والسماح له بإن يُمسِك بيد زوجته داخل الحرم الجامعي .
٣ )) ومن الأمثلة على قُدسية الحرم الجامعي ، كان بعض الطلبة يُفطرون في شهر رمضان المبارك ، ويتناولون الطعام والشراب داخل الحرم الجامعي . وسمع محافظ بغداد السيد / خير الله طُلفاح بذلك لكنه يُمنع دخول الشرطة للحرم الجامعي ، وهو خال الشهيد / صدام حسين . فقرر وضع بعض رجال الشرطة خارج بوابات الكليات الجامعية ، ليقبضوا على الطلبة الذين ما زالوا يأكلون او يشربون بمجرد الخروج من بوابة الحرم الجامعي ، ويتم حلاقة شعر رؤوسهم ، وتوقيفهم ، ليُفرج عنهم يوم العيد .
٤ )) مع عدم وجود أية مشاجرات ، ولا إحتكاكات البتة بين الطلبة ، الّا ان الحرس الجامعي كانوا ينتشرون في الساحات ، بين الطلبة ، وبزي مدني . وفيما لو حدثت مُجرد مُشادّة كلامية بين طالبين ، وإرتفع صوتهما ، وقبل الإشتباك ، يتم جلب الطالبين الى عمادة شؤون الطلبة ، ويتم فصلهما فصلاً نهائياً ، حتى لو بقي على تخرجهما أياماً معدودة ، ويتم ختم ملفيهما بالشمع الأحمر ، ولا يتم إعطائهما أية وثيقة تثبت انهما درسا في جامعة بغداد ، تمكنهما من الإنتقال الى جامعة أخرى ، وتضيع عليهما ( ربما ) أربع سنوات دراسية . هذا الضبط كان موجوداً ، رغم ان عدد طلبة جامعة بغداد آنذاك كان حوالي ( ٨٠,٠٠٠ ) طالباً وطالبه . لذلك تم فصل كل كلية بمبنى مستقل ، وتتباعد الكليات عن بعضها لعدة كيلومترات . وكان شعار الجامعة يتمثل بالآتي : (( نقولب الشخصية ، ونعطي مفاتيح العِلم )) .
الحرم الجامعي له قدسية ، لا أرى انها موجودة ، لا بل ولا تُحترم إن وجِدت في الجامعات الأردنية . والهدف من إضفاء القدسية على الحرم الجامعي ، هي لإضفاء الإحترام للجامعة وقوانينها ، وأنظمتها ، وأساتذتها ، وللعمل على قولبة ، وصياغة شخصية الطالب ، ليتناسب أسلوبه ، وتعامله ، مع المستوى العلمي الذي يسعى للحصول عليه ، وليتخرج من الجامعة بشخصية حضارية ، مُتفتحة .
الجامعات المحترمة ذات المستوى التصنيفي العالي تكون اجراءاتها صارمة ، وحاسمة ، وحازمة ، وقراراتها شديدة ، وسديدة لتحقيق الإنضباط التام بين الطلبة . حتى تطرح الغث خارج الحرم الجامعي لانه ليس بمستوى دخوله ، وتُبقي السمين لتنميه لِيُزهر خيراً للوطن .
مع الأسف ان سُمعة الجامعات الأردنية تردت بشكل كبير داخل الوطن وخارجه ، حيث ان نسبة لا بأس بها من الأردنيين يفضلون إرسال أبنائهم للدراسة خارج الأردن ليتفادوا البيئة الجامعية الرديئة . هذا علاوة على إنخفاض مستوى التحصيل العلمي . كما ان الجامعات الأردنية فقدت ألوف الطلبة من الدول الخليجية تحديداً ، وأنا أعرف ان الكثير من الخليجيين يرسلون أبنائهم وبناتهم ( تحديداً ) للدراسة في الأردن لأسباب إيجابية كثيرة لا مجال لذكرها في مقال .
أحد الأسباب الرئيسية للعنف الجامعي ، هو النهج الذي إتبعته الدولة الأردنية منذ عقود لتسطيح فكر الشباب ، لإبعادهم عن الإنضمام للأحزاب العقائدية التي كانت سائدة مثل : الأحزاب الإسلامية ، والقومية ، والإشتراكية . متجاهلةً ان تلك الأحزاب كانت تُركِّز على صقل شخصيات منتسبيها ، وقولبتهم ، وتوجيههم للجدية ، والمثالية ، والإنضباطية في السلوك والإلتزام بالقيم النبيلة . تصوروا معي ان تحدث مشاجرات عنيفة جداً في عدد من الجامعات سببها : أن فُلان ( جَحّْ ) فلان !؟ او ان فلان حاول يتكلم من إبنة عمي !؟ .. الخ من هذا السُخف ، والسطحية في مستوى التفكير . بالمقابل وللمقارنة تصوروا انني كنت وما زلت وسأبقى قومي التفكير والنهج . ومع ذلك كان واحداً من أقرب أصدقائي بين زملائي ينتمي للحزب الشيوعي ، بالإضافة الى زميلي الذي أقدر وأحترم وما زلت أتشرف بالتواصل معه البروفيسور / حمدي حميد الدوري ، أستاذ الأدب الإنجليزي الأشهر في العراق حالياً .
العنف الجامعي عكس سمعة سيئة عن الجامعات الأردنية خاصة ، وعن الوطن عامة . وإحترام قدسية الحرم الجامعي يرتقي بمستوى سمعة الوطن بما فيها الجامعات . لذلك لابد من قرارات صارمة ، وصادمة — حتى للمجتمع — حتى يشعر كبار المسؤولين ، والنواب ، والشيوخ ، والوجهاء ، بأن تدخلهم للتوسط في العنف الجامعي مُعيباً ، ومُسيئاً للوطن قبل الجامعات . آااااه يا أردن ، الإنحدار طال كل جنباتك ، مع كل الأسف والحُزن .