نَقاء .. فَضاء .. القَضاء
ناطق نيوز-بقلم : عوض ضيف الله الملاحمه
رأيي المتواضع — وانا لست حقوقياً — ان العدل وحده ليس اساس المُلك ، بل العدل والعدالة هما أساس المُلك . نعم ، العدل والعدالة أساس المُلك . لان هناك فرقاً بين العدل ( Justice ) ، والعدالة ( Equity ) . هدف القانون تحقيق العدل ، وليس تحقيق العدالة . فالعدل والعدالة كلاهما يقوم على المساواة بين الناس . الا ان المساواة التي تقوم عليها فكرة العدل هي مساواة مجردة ، تعتد بالوضع الغالب ، دون اكتراث بتفاوت الظروف الخاصة بالناس . أما العدالة ( الإنصاف ) فتقوم على مساواة واقعية على اساس التماثل في الاحكام المنصرفة للحالات .. ويعود التمييز بين هاتين الفكرتين الجوهريتين الى فلاسفة اليونان القدماء ، خاصة أرسطو . وكذلك يميز الفقه القانوني الحديث بين العدل ( العدل الشكلي القانوني ) ، والعدالة ( العدل الجوهري ، أي الإنصاف ) ، وترتبط فكرة العدل بالقاعدة القانونية ، بينما ترتبط فكرة العدالة بالمعايير القانونية .
مَرَّ بخاطري القاضي العادل الباسل ، ابو باسل المرحوم الأستاذ / ابراهيم سالم الطراونه ، الذي ربطتني به علاقة طيبة وتواصل مستمر — رغم فارق السن بيننا — وذلك أثناء إعارته كقاضي تمييز الى ابوظبي ، في نهاية سبعينات القرن الماضي .
قد يقول قائل انني لست موفقاً في وصف القاضي بالباسل ، لان القضاء لا يحتاج الى بسالة . اقول ان القاضي حتى يكون عادلاً يحتاج الى البسالة ، والشجاعة ، والجسارة ، والجرأة ، النزاهة ، والإباء ، والشمم ، وعِفة النفس . يجب ان تتصف شخصيته بكل ما سبق ليتجرأ على ان يقول لا ، ويرفض اية تدخلات او ضغوطات ، ويرفض الاغراءات ، والمساومات ، وان يكون كل ذلك بقناعة مبدأية ( built in ) لا تتزعزع ، ولا تهتز ، ولا تضعُف .
كان قاضي التمييز ، المتميز ابا باسل ، اذا لم يكن لديه ارتباطات عائلية ايام الخميس ، يدعوني لأسهر معه في بيته . وفي إحدى الليالي ، ونحن نسهر ونتبادل اطراف الحديث ، قُرِعَ جرس الباب ، فإذا برجلين اردنيين ، احدهما صديق لأبي باسل ، فعرّفنا صديقه على الرجل الذي يرافقه . وبدأ موجهاً حديثه الى ابي باسل ، قائلاً : ان صديقه هذا تعرض لظلم من شريكة في شركة يملكانها ، وانه اتى به لإستشارة ابي باسل ، هل يرفع قضية على من ظلمه ؟ وهل يمكنه ان يكسب القضية ؟ قاطعه ابا باسل قائلاً : يا صديقي انا قاضي ولست محامياً ، واسئلتك هذه يفترض ان توجهها لمحامي . ثم انه لا يحق لي ان ابدي رأياً بذلك ، فلو نصحتك بان ترفع قضية وستكسبها ، فاذا كسبتها ، ستتفاخر وتقول انك كسبت القضية بسبب نصحية صديقك ابا باسل ، معتقداً انك تفتخر بي ، بينما في الواقع تكون قد شوهت ما عُرف عني من نزاهة في عملي ، واذا خسرت القضية ، ستتحدث بانني ورطتك ، وهذا يكون تشويهاً بشكل آخر . انتما ضيفين ، تأخذان واجب الضيافة دون الحديث بما يمت باية صلة لعملي كقاضي .
ما سردته اعلاه ، قصة من عشرات القصص . هل لاحظتم سلوك القاضي العادل النزيه ؟ هذا هو المرحوم القاضي ابراهيم سالم الطراونه . وهذا ليس بغريب على العديد من القضاة الرموز في وطننا الحبيب . الا تذكرون معي رموز القضاء الاردني ، الذي اسسوه على النزاهة والاستقامة وإحقاق العدل !؟ ألا تذكرون القضاة الرموز الأجلاء : ( مع حفظ الألقاب ) :- علي مسمار / موسى الساكت / عطا الله المجالي … وغيرهم كُثر .
أتذكرون معي مجزرة القضاة التي اقترفها أحد رؤساء الوزارات ، عندما أحال عدداً من رموز القضاء الأردني الى التقاعد ، في نهاية ثمانينات القرن المنصرم ، المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والاستقامة . ولأن ذاكرة دولتنا ، تشبه ذاكرة السمكة ، فقد ولينا ذات الشخص رئاسة لجنة تطوير القضاء ، قبل بضعة اعوام ، حيث كان يُفترض ان نسميها ( لجنة تطهير ، وليس تطوير القضاء ) .
القُضاة بُناة مجتمع العدل . واذا ساد العدل والعدالة صحّ المجتمع وازدهر الوطن . القاضي العادل مسؤول عن تحقيق العدل وليس العدالة . لان عوامل وادوات إحقاق العدالة ليست بيد القاضي . ببساطة العدالة تعني تطبيق العدل ، لانه لا قيمة للعدل اذا لم يتم تنفيذه ليتحول الى عدالة . العدالة هي المبتغى . ما الجدوى من اصدار قرارات عادلة اذا لم تُطبق لِتعُم العدالة !؟ اذا عمّت العدالة ، عمّ العدل ، ولا عدل بدون عدالة .
مسيرة القاضي المرحوم / ابراهيم سالم الطراونه ، ترفع الرأس ، وتبعث على الفخر والاعتزاز لدى كل من عرفه ، وعرف أنفته ، وكبريائه ، كما نزاهته وإستقامة نهجه . في جنان الخلد يا ابا باسل ، مع الأنبياء والصديقين والشهداء ، متضرعاً الى رب العباد ، ان تكون قاضٍ في الجنة ، ولا أُزكي على الله أحداً . متمنياً ان يستمر قضاؤنا على نفس نهج وقيم رموزه الأجلاء مصدر فخر الوطن والمواطن . وأختم ببيتين من الشِعر :-
للهِ درُّ أُناسٍ أينما ذُكِروا / تَطيبُ سِيرَتُهُم حتى وإن غابوا .
أُولئِكَ الأخيارُ قد طاب منزِلهُم / مِيراثهُم بِرٌّ ، خُلقٌ وآدابُ .